من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم الشيخ محمد واعظ زادة الخراساني، منحني الله وإياه الفقه في الدين، وأعاذنا جميعاً من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين.
سلامٌ عليكم ورحمة الله، وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم، وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق وجميع ما شرحتم كان معلوماً.
وقد وقع في كتابكم أمور تحتاج إلى كشف وإيضاح، وإزالة ما قد وقع لكم من الشبهة، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « الدين النصيحة » [رواه مسلم].
وقوله صلى الله عليه وسلم : « من دل على خير فله مثل أجر فاعله » [رواه مسلم] وغيرهما من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب.
وقد أرشد إلى ذلك مولانا سبحانه في قوله عزّ وجلّ: { وتعاونوا على البر والتقوى } [المائدة: 2]، وقوله سبحانه وتعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [النحل: 125].
فأقول: ذكرتم في كتابكم ما نصه: ((ومع احترامي وتقديري لجهودكم في هذا السبيل خطر ببالي بعض الملاحظات، أحببت أن أبديها لكم راجياً أن يكون فيها خير الإسلام والمسلمين، والاعتصام بحبل الله المتين في سبيل تقارب المسلمين، ووحدة صفوفهم في مجال العقيدة والشريعة.
أولاً: لاحظتكم تعبرون دائماً عن بعض ما شاع بين المسلمين من التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الأولياء كمسح الجدران، والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره شركاً وعبادة لغير الله. وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم، ودعاؤهم وما إلى ذلك. إني أقول: هناك فرق بين ذلك، فطلب الحاجات من النبي ومن الأولياء باعتبارهم يقضون الحاجات من دون الله أو مع الله، فهذا شرك جلي لا شك فيه، لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، والتي لا ينهاهم عنها العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي. من غير فرق بين مذهب وآخر، ليست هي في جوهرها طلباً للحاجات من النبي والأولياء، ولا اتخاذهم أرباباً من دون الله، بل مرد ذلك كله- لو استثنينا عمل بعض الجهال من العوام- إلى أحد أمرين: التبرك والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، أو بغيره من المقربين إلى الله عزّ وجلّ.
أما التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم من غير طلب الحاجة منه، ولا دعائه، فمنشأه الحب والشوق الأكيد، رجاء أن يعطيهم الله الخير، بالتقرب إلى نبيه، وإظهار المحبة له، وكذلك بآثار غيره من المقربين عند الله.
وإني لا أجد مسلماً يعتقد أن الباب والجدران يقضيان الحاجات، ولا أن النبي أو الولي يقضيها، بل لا يرجو بذلك إلا الله، إكراماً لنبيه، أو لأحد من أوليائه، أن يفيض الله عليه من بركاته. والتبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، كما تعلمون ويعلمه كل من اطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كان معمولاً به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتبركون بماء وضوئه، وثوبه وطعامه وشرابه وشعره، وكل شيء منه، ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولعلكم تقولون: أجل كان هذا وهو معمول به الآن بالنسبة إلى الأحياء من الأولياء والأتقياء لكنه خاص بالأحياء دون الأموات لعدم وجود دليل على جوازه إلا في حال الحياة بالذات، فأقول: هناك بعض الآثار تدل على أن الصحابة قد تبركوا بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يمسح منبر النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً به.
وهناك شواهد على أنهم كانوا يحتفظون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان الخلفاء العباسيون ومن بعدهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبي صلى الله عليه وسلم تبركاُ به، لا سيما في الحروب، ولم يمنعهم أحد من العلماء الكبار والفقهاء المعترف بفقههم ودينهم)) انتهى المقصود من كلامكم.
والجواب أن يقال: ما ذكرتم فيه تفصيل:
فأمّا التبرك بما مسّ جسده صلى الله عليه وسلم من وضوء أو عرق أو شعر ونحو ذلك فهذا أمر معروف وجائز عند الصحابة رضي الله عنهم، وأتباعهم بإحسان. لما في ذلك من الخير والبركة. وهذا أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
فأما التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك ونحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، فبدعة لا أصل لها، والواجب تركها؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما أقره الشرع لقول النبي صلى الله عليه وسلم « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » [متفق على صحته]، وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري رحمه الله في صحيحه جازماً بها: « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد »
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" والأحاديث في ذلك كثيرة.
فالواجب على المسلمين التقيد في ذلك بما شرعه الله كاستلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني.
ولهذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قبَّل الحجر الأسود:
( إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) [رواه البخاري، ومسلم].
وبذلك يعلم أن استلام بقية أركان الكعبة، وبقية الجدران والأعمدة غير مشروع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يرشد إليه، ولأن ذلك من وسائل الشرك. وهكذا الجدران والأعمدة والشبابيك وجدران الحجرة النبوية من باب أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع ذلك، ولم يرشد إليه، ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم.
وأما ما نُقِلَ عن ابن عمر رضي الله عنهما، لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم منه بهذا الأمر، وعلمهم موافق لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها، خوفاً من الفتنة بها، وسداً للذريعة.
وأما دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك الأكبر، وهو الذي كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم وأوثانهم، وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه زلفى، ولم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم، كما بيّن الله سبحانه وتعالى ذلك عنهم في قوله سبحانه: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس: 18]، فردّ عليهم سبحانه وتعالى بقوله: { قل أتُنبّئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يُشركون } [يونس: 18].
وقال عزّ وجلّ في سورة الزمر: { فاعبدِ الله مخلصاً له الدين . ألا لله الدّين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفار } [سورة الزمر: 2-3] فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار لم يقصدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم، أو يقضون حوائجهم، وإنما أرادوا منهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فأكذبهم سبحانه ورد عليهم قولهم بقوله سبحانه: { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } سماهم كذبة وكفاراً بهذا الأمر.
فالواجب على مثلكم تدبر هذا المقام وإعطاؤه ما يستحق من العناية. ويدل على كفرهم- أيضاً- بهذا الاعتقاد قوله سبحانه: { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يُفلح الكافرون } [سورة المؤمنون: 117].
فسماهم في هذه الآية كفاراً وحكم عليهم بذلك لمجرد الدعاء لغير الله من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم.
ويدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه في سورة فاطر: { ذلكُمُ الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا يُنبّئك مثل خبير } [فاطر: 13، 14] فحكم سبحانه بهذه الآية على أن دعاء المشركين لغير الله، من الأنبياء والأولياء، أو الملائكة أو الجن، أو الأصنام أو غير ذلك بأنه شرك، والآيات في هذا المعنى لمن تدبر كتاب الله كثيرة.
وننقل لك هنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (ص157 ج1) ما نصه: ((والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم، وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة، وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم، ويرضون بشركهم، قال الله تعالى: { ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون* قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنَّ أكثرهم بهم مؤمنون } [سبأ: 40، 41].
والملائكة لا تعينهم على الشر، لا في المحيا ولا في الممات، ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين، فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان أنا علي، أنا الشيخ فلان، وقد يقول بعضهم عن بعض هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، ويكون أولئك كلهم جناً، يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس فمنهم الكافر، ومنهم الفاسق، ومنهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخاً فيتزيّ في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاماً ويسقيه شراباً، أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت، أو الحي فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته، وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنياً، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك، والإثم والعدوان.
وقد قال الله تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً . أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً } [الإسراء: 56، 57].
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء، كالعزيز والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله. كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين.
والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نستشفع بهم، أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا فإذا صورنا تمثاله – والتماثيل: إما مجسدة، وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم- قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها، وسيرهم ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله، فيقول أحدهم: يا ستي الحنونة مريم، أو يا سيدي الخليل، أو موسى بن عمران، أو غير ذلك: اشفع لي إلى ربك.
وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك، أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضراً حياً وينشدون قصائد بقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان أنا في حبك، أنا في جوارك اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا وكذا فسل الله أن يكشف هذه الكربة، أو يقول أحدهم: سل الله أن يغفر لي.
ومنهم من يتأول قوله تعالى: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } [النساء: 64].
ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة. ويخالفون بذلك الإجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر المسلمين، فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له، ولا سأله شيئاً، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، وحكموا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه، سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين، من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى، قال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21]. إلى آخر ما ذكره رحمه الله في رسالته الجليلة المسماة: "القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة" قد أوضح فيها أنواع الشرك فراجعها إن شئت.
وقال أيضاً- رحمه الله- في رسالته إلى أتباع الشيخ عدي بن مسافر ص 31 ما نصه: ((فصل: وكذلك الغلو في بعض المشايخ إما في الشيخ عدي، ويونس القني، أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونحوه، بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه، فكل من غلا في حيّ، أو في رجل صالح، كمثل عليِّ رضي الله عنه أو عدي أونحوهما، أو في من يُعتقد فيه الصلاح كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القني ونحوهم. وجعل فيه نوعاً من الألوهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول: إذا ذبح شاة باسم سيدي. أو يعبده بالسجود له، أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله تعالى وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهاً آخر.
والذين كانوا يدعون مع الله آلهةً أخرى مثل الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ويغوث ويعوق ونسرا، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم، ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى.
ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله، فأرسل الله تبارك وتعالى رسله تنهى أن يُدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء إستغاثة. قال تعالى: { قل ادعوا الّذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضُّر عنكم ولا تحويلاً . أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً } [الإسراء: 56، 57].
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إليّ، كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
وقال تعالى: { قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير . ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [سبأ: 22، 23].
فأخبر سبحانه أن ما يُدعى من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك، ولا شريك في الملك، وأنه ليس له في الخلق عون يستعين به وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه).
إلى أن قال رحمه الله: ((وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله تعالى به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رُّسُلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون } [الزخرف: 45]، وقال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36]، وقال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رَّسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: « أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده » [رواه أحمد]
وقال: « لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمّد ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمّد » [رواه الدارمي، وابن ماجه، وأحمد]
ونهى عن الحلف بغير الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم : « من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت » [رواه البخاري]
وقال صلى الله عليه وسلم: « من حلف بغير الله فقد أشرك » [رواه أبو داود والترمذي] وقال صلى الله عليه وسلم : « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله » [رواه البخاري].
ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه له نهى عن ذلك وقال: « لا يصلح السجود إلا لله » [رواه احمد] وقال: « لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » [رواه الترمذي، وابن ماجة وأحمد]
وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: « أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ »
قال: لا، قال: « فلا تسجد لي » [رواه أبو داود]
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وقال في مرض موته:
« لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » [رواه البخاري، ومسلم]. .
إلى أن قال رحمه الله: ( ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المسجد على القبور ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول الصلاة عندها باطلة ) .
إلى أن قال رحمه الله: ((وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كانت تعظيم القبور بالعبادة ونحوها، قال الله تعالى في كتابه: { وقالوا لا تذرُنّ آلهتكم ولا تذرُنّ وَدًّا ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } [نوح: 23] .
قال طائفة من السلف: كانت هذه الأسماء لقوم صاحين فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها.
ولهذا اتفق العلماء على أن من سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وقال العلامة ابن القيم- رحمه الله- في الجواب الكافي ص156 ما نصه: "فصل: ويتبع هذا الشرك الشرك به سبحانه في الأفعال والأقوال والإرادات والنيات، فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض، وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى لله فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثاناً يعبدها من دون الله.
ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد »
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: « إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد »
وزفي الصحيح أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم: « إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك » .
وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه وصحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم قال: « لعن الله زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج » [رواه ابن حبان].
وقال صلى الله عليه وسلم : « اشتد غضب الله على قوم إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » [رواه مالك].
وقال صلى الله عليه وسلم : « إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصورا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة » [رواه البخاري].فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر، فكيف حال من سجد للقبر نفسه! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد » [رواه مالك] انتهى كلامه رحمه الله.
وبما ذكرنا في صدر هذا الجواب، وبما نقلناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- وتلميذه العلامة ابن القيم- رحمه الله- يتضح لكم ولغيركم من القراء أن ما يفعله الجهال من الشيعة وغيرهم، عند القبور، من دعاء أهلها، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، والسجود لهم، وتقبيل القبور طلباً لشفاعتهم، أو نفعهم لمن قبَّلها. كل ذلك من الشرك الأكبر؛ لكونه عبادة لهم، والعبادة حق لله وحده، كما قال الله سبحانه: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [النساء: 36]، وقال سبحانه: { وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حُنفاء } [البينة: 5].
وقال عزّ وجلّ: { وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدونِ } [الذاريات: 56].
إلى غير ذلك من الآيات التي سبق بعضها.
أما تقبيل الجدران أو الشبابيك أو غيرها، واعتقاد أن ذلك عبادة لله، لا من أجل التقرب بذلك إلى المخلوق. فإن ذلك يسمى بدعة لكونه تقرباً لم يشرعه الله، فدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » [رواه البخاري، ومسلم].
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: « إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة » [رواه أبو داود وأحمد].
وأما تقبيل الحجر الأسود، واستلامه واستلام الركن اليماني فكل ذلك عبادة لله وحده واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لكونه فعل ذلك في حجة الوداع وقال:
« خذوا عني مناسككم » [رواه البيهقي، وابن عبد البر]
وقد قال الله عزّ وجلّ: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } [الأحزاب: 21].
وأما التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم وعرقه ووضوئه فلا حرج في ذلك كما تقدم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة عليه لما جعل الله تعالى فيه من البركة، وهي من الله سبحانه، وهكذا ما جعل الله في ماء زمزم من البركة حيث قال صلى الله عليه وسلم عن زمزم: « إنها مباركة، وإنها طعام طعم، وشفاء سقم » [رواه مسلم، وأحمد].
والواجب على المسلمين الاتباع والتقيد بالشرع، والحذر من البدع القولية والعملية. ولهذا لم يتبرك الصحابة رضي الله عنهم بشعر الصديق رضي الله عنه، أو عرقه أو وضوئه، ولا بشعر عمر، أو عثمان، أو علي، أو عرقهم أو وضوئهم، ولا بعرق غيرهم من الصحابة، وشعره ووضوئه، لعلمهم بأن هذا أمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يقاس عليه غيره في ذلك، وقد قال الله عزّ وجلّ: { والسَّابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والَّذين اتَّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنَّاتٍ تجري تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } [التوبة: 100].
وقال كثير من الصحابة رضي الله عنهم: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم.
وأما توسل عمر رضي الله عنه والصحابة بدعاء العباس في الاستسقاء، وهكذا توسل معاوية رضي الله عنه في الاستسقاء بدعاء يزيد بن الأسود، فذلك لا بأس به، لأنه توسل بدعائهما وشفاعتهما ولا حرج في ذلك.
ولهذا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه: ادع الله لي، وذلك دليل من عمل عمر والصحابة رضي الله عنهم ومعاوية رضي الله عنه على أن لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ولا غيره بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك جائزاً لما عدل عمر الفاروق والصحابة رضي الله عنهم عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بدعاء العباس، ولما عدل معاوية رضي الله عنه عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بيزيد بن الأسود، وهذا شيء واضح بحمد الله.
وإنما يكون التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم ومحبته والسير على منهاجه وتحكيم شريعته وطاعة أوامره، وترك نواهيه. هذا هو التوسل الشرعي به صلى الله عليه وسلم بإجماع أهل السنة والجماعة وهو المراد بقول الله سبحانه: { لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة } [الأحزاب: 21].
وبما ذكرنا يُعلم أن التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم أو بذاته من البدع التي أحدثها الناس ، ولو كان ذلك خيراً لسبقنا إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أعلم الناس بدينه وبحقه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وأما توسل الأعمى به صلى الله عليه وسلم إلى الله سبحانه في رد بصره إليه فذلك توسل بدعائه وشفاعته حال حياته صلى الله عليه وسلم ولهذا شفع له النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له.
والله المسؤول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يوفق جميع حكام المسلمين للفقه في الدين، والحكم بشريعة الله سبحانه، والتحاكم إليها، وإلزام الشعوب بها، والحذر مما يخالفها عملاً بقول الله عزّ وجلّ: { فلا وربّك لا يؤمنونَ حتى يُحكّموك فيما شجرَ بينهم ثُمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسلمياً } [النساء: 65]، وبقوله سبحانه: { أفَحُكْمَ الجاهليةِ يبغون ومن أحسن من الله حُكماً لِّقومٍ يُوقنون } [المائدة: 50]، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .
سلامٌ عليكم ورحمة الله، وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم، وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق وجميع ما شرحتم كان معلوماً.
وقد وقع في كتابكم أمور تحتاج إلى كشف وإيضاح، وإزالة ما قد وقع لكم من الشبهة، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « الدين النصيحة » [رواه مسلم].
وقوله صلى الله عليه وسلم : « من دل على خير فله مثل أجر فاعله » [رواه مسلم] وغيرهما من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب.
وقد أرشد إلى ذلك مولانا سبحانه في قوله عزّ وجلّ: { وتعاونوا على البر والتقوى } [المائدة: 2]، وقوله سبحانه وتعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [النحل: 125].
فأقول: ذكرتم في كتابكم ما نصه: ((ومع احترامي وتقديري لجهودكم في هذا السبيل خطر ببالي بعض الملاحظات، أحببت أن أبديها لكم راجياً أن يكون فيها خير الإسلام والمسلمين، والاعتصام بحبل الله المتين في سبيل تقارب المسلمين، ووحدة صفوفهم في مجال العقيدة والشريعة.
أولاً: لاحظتكم تعبرون دائماً عن بعض ما شاع بين المسلمين من التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الأولياء كمسح الجدران، والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره شركاً وعبادة لغير الله. وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم، ودعاؤهم وما إلى ذلك. إني أقول: هناك فرق بين ذلك، فطلب الحاجات من النبي ومن الأولياء باعتبارهم يقضون الحاجات من دون الله أو مع الله، فهذا شرك جلي لا شك فيه، لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، والتي لا ينهاهم عنها العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي. من غير فرق بين مذهب وآخر، ليست هي في جوهرها طلباً للحاجات من النبي والأولياء، ولا اتخاذهم أرباباً من دون الله، بل مرد ذلك كله- لو استثنينا عمل بعض الجهال من العوام- إلى أحد أمرين: التبرك والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، أو بغيره من المقربين إلى الله عزّ وجلّ.
أما التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم من غير طلب الحاجة منه، ولا دعائه، فمنشأه الحب والشوق الأكيد، رجاء أن يعطيهم الله الخير، بالتقرب إلى نبيه، وإظهار المحبة له، وكذلك بآثار غيره من المقربين عند الله.
وإني لا أجد مسلماً يعتقد أن الباب والجدران يقضيان الحاجات، ولا أن النبي أو الولي يقضيها، بل لا يرجو بذلك إلا الله، إكراماً لنبيه، أو لأحد من أوليائه، أن يفيض الله عليه من بركاته. والتبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، كما تعلمون ويعلمه كل من اطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كان معمولاً به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتبركون بماء وضوئه، وثوبه وطعامه وشرابه وشعره، وكل شيء منه، ولم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ولعلكم تقولون: أجل كان هذا وهو معمول به الآن بالنسبة إلى الأحياء من الأولياء والأتقياء لكنه خاص بالأحياء دون الأموات لعدم وجود دليل على جوازه إلا في حال الحياة بالذات، فأقول: هناك بعض الآثار تدل على أن الصحابة قد تبركوا بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يمسح منبر النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً به.
وهناك شواهد على أنهم كانوا يحتفظون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان الخلفاء العباسيون ومن بعدهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبي صلى الله عليه وسلم تبركاُ به، لا سيما في الحروب، ولم يمنعهم أحد من العلماء الكبار والفقهاء المعترف بفقههم ودينهم)) انتهى المقصود من كلامكم.
والجواب أن يقال: ما ذكرتم فيه تفصيل:
فأمّا التبرك بما مسّ جسده صلى الله عليه وسلم من وضوء أو عرق أو شعر ونحو ذلك فهذا أمر معروف وجائز عند الصحابة رضي الله عنهم، وأتباعهم بإحسان. لما في ذلك من الخير والبركة. وهذا أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
فأما التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك ونحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، فبدعة لا أصل لها، والواجب تركها؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما أقره الشرع لقول النبي صلى الله عليه وسلم « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » [متفق على صحته]، وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري رحمه الله في صحيحه جازماً بها: « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد »
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" والأحاديث في ذلك كثيرة.
فالواجب على المسلمين التقيد في ذلك بما شرعه الله كاستلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني.
ولهذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قبَّل الحجر الأسود:
( إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) [رواه البخاري، ومسلم].
وبذلك يعلم أن استلام بقية أركان الكعبة، وبقية الجدران والأعمدة غير مشروع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يرشد إليه، ولأن ذلك من وسائل الشرك. وهكذا الجدران والأعمدة والشبابيك وجدران الحجرة النبوية من باب أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع ذلك، ولم يرشد إليه، ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم.
وأما ما نُقِلَ عن ابن عمر رضي الله عنهما، لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم منه بهذا الأمر، وعلمهم موافق لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها، خوفاً من الفتنة بها، وسداً للذريعة.
وأما دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك الأكبر، وهو الذي كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم وأوثانهم، وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه زلفى، ولم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم، كما بيّن الله سبحانه وتعالى ذلك عنهم في قوله سبحانه: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس: 18]، فردّ عليهم سبحانه وتعالى بقوله: { قل أتُنبّئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يُشركون } [يونس: 18].
وقال عزّ وجلّ في سورة الزمر: { فاعبدِ الله مخلصاً له الدين . ألا لله الدّين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفار } [سورة الزمر: 2-3] فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار لم يقصدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم، أو يقضون حوائجهم، وإنما أرادوا منهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فأكذبهم سبحانه ورد عليهم قولهم بقوله سبحانه: { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } سماهم كذبة وكفاراً بهذا الأمر.
فالواجب على مثلكم تدبر هذا المقام وإعطاؤه ما يستحق من العناية. ويدل على كفرهم- أيضاً- بهذا الاعتقاد قوله سبحانه: { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يُفلح الكافرون } [سورة المؤمنون: 117].
فسماهم في هذه الآية كفاراً وحكم عليهم بذلك لمجرد الدعاء لغير الله من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم.
ويدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه في سورة فاطر: { ذلكُمُ الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا يُنبّئك مثل خبير } [فاطر: 13، 14] فحكم سبحانه بهذه الآية على أن دعاء المشركين لغير الله، من الأنبياء والأولياء، أو الملائكة أو الجن، أو الأصنام أو غير ذلك بأنه شرك، والآيات في هذا المعنى لمن تدبر كتاب الله كثيرة.
وننقل لك هنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (ص157 ج1) ما نصه: ((والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم، وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة، وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم، ويرضون بشركهم، قال الله تعالى: { ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون* قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنَّ أكثرهم بهم مؤمنون } [سبأ: 40، 41].
والملائكة لا تعينهم على الشر، لا في المحيا ولا في الممات، ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين، فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان أنا علي، أنا الشيخ فلان، وقد يقول بعضهم عن بعض هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، ويكون أولئك كلهم جناً، يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس فمنهم الكافر، ومنهم الفاسق، ومنهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخاً فيتزيّ في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاماً ويسقيه شراباً، أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت، أو الحي فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته، وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنياً، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك، والإثم والعدوان.
وقد قال الله تعالى: { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً . أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً } [الإسراء: 56، 57].
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء، كالعزيز والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله. كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين.
والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نستشفع بهم، أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا فإذا صورنا تمثاله – والتماثيل: إما مجسدة، وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم- قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها، وسيرهم ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله، فيقول أحدهم: يا ستي الحنونة مريم، أو يا سيدي الخليل، أو موسى بن عمران، أو غير ذلك: اشفع لي إلى ربك.
وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك، أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضراً حياً وينشدون قصائد بقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان أنا في حبك، أنا في جوارك اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا وكذا فسل الله أن يكشف هذه الكربة، أو يقول أحدهم: سل الله أن يغفر لي.
ومنهم من يتأول قوله تعالى: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } [النساء: 64].
ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة. ويخالفون بذلك الإجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر المسلمين، فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له، ولا سأله شيئاً، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، وحكموا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه، سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين، من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى، قال تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله } [الشورى: 21]. إلى آخر ما ذكره رحمه الله في رسالته الجليلة المسماة: "القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة" قد أوضح فيها أنواع الشرك فراجعها إن شئت.
وقال أيضاً- رحمه الله- في رسالته إلى أتباع الشيخ عدي بن مسافر ص 31 ما نصه: ((فصل: وكذلك الغلو في بعض المشايخ إما في الشيخ عدي، ويونس القني، أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونحوه، بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه، فكل من غلا في حيّ، أو في رجل صالح، كمثل عليِّ رضي الله عنه أو عدي أونحوهما، أو في من يُعتقد فيه الصلاح كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القني ونحوهم. وجعل فيه نوعاً من الألوهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول: إذا ذبح شاة باسم سيدي. أو يعبده بالسجود له، أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله تعالى وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهاً آخر.
والذين كانوا يدعون مع الله آلهةً أخرى مثل الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ويغوث ويعوق ونسرا، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم، ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى.
ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله، فأرسل الله تبارك وتعالى رسله تنهى أن يُدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء إستغاثة. قال تعالى: { قل ادعوا الّذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضُّر عنكم ولا تحويلاً . أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً } [الإسراء: 56، 57].
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيراً والملائكة فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إليّ، كما تتقربون، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
وقال تعالى: { قل ادعوا الَّذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير . ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [سبأ: 22، 23].
فأخبر سبحانه أن ما يُدعى من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك، ولا شريك في الملك، وأنه ليس له في الخلق عون يستعين به وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه).
إلى أن قال رحمه الله: ((وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله تعالى به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رُّسُلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون } [الزخرف: 45]، وقال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36]، وقال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رَّسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: « أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده » [رواه أحمد]
وقال: « لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمّد ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمّد » [رواه الدارمي، وابن ماجه، وأحمد]
ونهى عن الحلف بغير الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم : « من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت » [رواه البخاري]
وقال صلى الله عليه وسلم: « من حلف بغير الله فقد أشرك » [رواه أبو داود والترمذي] وقال صلى الله عليه وسلم : « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله » [رواه البخاري].
ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد بعض أصحابه له نهى عن ذلك وقال: « لا يصلح السجود إلا لله » [رواه احمد] وقال: « لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » [رواه الترمذي، وابن ماجة وأحمد]
وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: « أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجداً له؟ »
قال: لا، قال: « فلا تسجد لي » [رواه أبو داود]
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وقال في مرض موته:
« لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » [رواه البخاري، ومسلم]. .
إلى أن قال رحمه الله: ( ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المسجد على القبور ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول الصلاة عندها باطلة ) .
إلى أن قال رحمه الله: ((وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كانت تعظيم القبور بالعبادة ونحوها، قال الله تعالى في كتابه: { وقالوا لا تذرُنّ آلهتكم ولا تذرُنّ وَدًّا ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } [نوح: 23] .
قال طائفة من السلف: كانت هذه الأسماء لقوم صاحين فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم وعبدوها.
ولهذا اتفق العلماء على أن من سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وقال العلامة ابن القيم- رحمه الله- في الجواب الكافي ص156 ما نصه: "فصل: ويتبع هذا الشرك الشرك به سبحانه في الأفعال والأقوال والإرادات والنيات، فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض، وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى لله فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثاناً يعبدها من دون الله.
ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد »
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: « إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد »
وزفي الصحيح أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم: « إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك » .
وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه وصحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم قال: « لعن الله زوّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج » [رواه ابن حبان].
وقال صلى الله عليه وسلم : « اشتد غضب الله على قوم إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » [رواه مالك].
وقال صلى الله عليه وسلم : « إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصورا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة » [رواه البخاري].فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر، فكيف حال من سجد للقبر نفسه! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد » [رواه مالك] انتهى كلامه رحمه الله.
وبما ذكرنا في صدر هذا الجواب، وبما نقلناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- وتلميذه العلامة ابن القيم- رحمه الله- يتضح لكم ولغيركم من القراء أن ما يفعله الجهال من الشيعة وغيرهم، عند القبور، من دعاء أهلها، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، والسجود لهم، وتقبيل القبور طلباً لشفاعتهم، أو نفعهم لمن قبَّلها. كل ذلك من الشرك الأكبر؛ لكونه عبادة لهم، والعبادة حق لله وحده، كما قال الله سبحانه: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [النساء: 36]، وقال سبحانه: { وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حُنفاء } [البينة: 5].
وقال عزّ وجلّ: { وما خلقتُ الجنّ والإنس إلا ليعبدونِ } [الذاريات: 56].
إلى غير ذلك من الآيات التي سبق بعضها.
أما تقبيل الجدران أو الشبابيك أو غيرها، واعتقاد أن ذلك عبادة لله، لا من أجل التقرب بذلك إلى المخلوق. فإن ذلك يسمى بدعة لكونه تقرباً لم يشرعه الله، فدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » [رواه البخاري، ومسلم].
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: « إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة » [رواه أبو داود وأحمد].
وأما تقبيل الحجر الأسود، واستلامه واستلام الركن اليماني فكل ذلك عبادة لله وحده واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لكونه فعل ذلك في حجة الوداع وقال:
« خذوا عني مناسككم » [رواه البيهقي، وابن عبد البر]
وقد قال الله عزّ وجلّ: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } [الأحزاب: 21].
وأما التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم وعرقه ووضوئه فلا حرج في ذلك كما تقدم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة عليه لما جعل الله تعالى فيه من البركة، وهي من الله سبحانه، وهكذا ما جعل الله في ماء زمزم من البركة حيث قال صلى الله عليه وسلم عن زمزم: « إنها مباركة، وإنها طعام طعم، وشفاء سقم » [رواه مسلم، وأحمد].
والواجب على المسلمين الاتباع والتقيد بالشرع، والحذر من البدع القولية والعملية. ولهذا لم يتبرك الصحابة رضي الله عنهم بشعر الصديق رضي الله عنه، أو عرقه أو وضوئه، ولا بشعر عمر، أو عثمان، أو علي، أو عرقهم أو وضوئهم، ولا بعرق غيرهم من الصحابة، وشعره ووضوئه، لعلمهم بأن هذا أمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يقاس عليه غيره في ذلك، وقد قال الله عزّ وجلّ: { والسَّابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار والَّذين اتَّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنَّاتٍ تجري تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } [التوبة: 100].
وقال كثير من الصحابة رضي الله عنهم: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم.
وأما توسل عمر رضي الله عنه والصحابة بدعاء العباس في الاستسقاء، وهكذا توسل معاوية رضي الله عنه في الاستسقاء بدعاء يزيد بن الأسود، فذلك لا بأس به، لأنه توسل بدعائهما وشفاعتهما ولا حرج في ذلك.
ولهذا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه: ادع الله لي، وذلك دليل من عمل عمر والصحابة رضي الله عنهم ومعاوية رضي الله عنه على أن لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ولا غيره بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولو كان ذلك جائزاً لما عدل عمر الفاروق والصحابة رضي الله عنهم عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بدعاء العباس، ولما عدل معاوية رضي الله عنه عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بيزيد بن الأسود، وهذا شيء واضح بحمد الله.
وإنما يكون التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم ومحبته والسير على منهاجه وتحكيم شريعته وطاعة أوامره، وترك نواهيه. هذا هو التوسل الشرعي به صلى الله عليه وسلم بإجماع أهل السنة والجماعة وهو المراد بقول الله سبحانه: { لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة } [الأحزاب: 21].
وبما ذكرنا يُعلم أن التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم أو بذاته من البدع التي أحدثها الناس ، ولو كان ذلك خيراً لسبقنا إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أعلم الناس بدينه وبحقه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وأما توسل الأعمى به صلى الله عليه وسلم إلى الله سبحانه في رد بصره إليه فذلك توسل بدعائه وشفاعته حال حياته صلى الله عليه وسلم ولهذا شفع له النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له.
والله المسؤول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يوفق جميع حكام المسلمين للفقه في الدين، والحكم بشريعة الله سبحانه، والتحاكم إليها، وإلزام الشعوب بها، والحذر مما يخالفها عملاً بقول الله عزّ وجلّ: { فلا وربّك لا يؤمنونَ حتى يُحكّموك فيما شجرَ بينهم ثُمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسلمياً } [النساء: 65]، وبقوله سبحانه: { أفَحُكْمَ الجاهليةِ يبغون ومن أحسن من الله حُكماً لِّقومٍ يُوقنون } [المائدة: 50]، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .
الجمعة أغسطس 20, 2010 3:04 am من طرف Admin
» سلسلة الدارالآخرة للشيخ محمد حسان
الأحد يوليو 18, 2010 10:10 am من طرف m_kamel72
» شروط قسم الرياضة
الثلاثاء يوليو 13, 2010 12:32 am من طرف Admin
» شروط القسم الإجتماعى
الثلاثاء يوليو 13, 2010 12:21 am من طرف Admin
» شروط القسم الإسلامى
الإثنين يوليو 12, 2010 6:02 am من طرف Admin
» الشروط العامه
الإثنين يوليو 12, 2010 5:40 am من طرف Admin
» السبع الموبيقات
الإثنين يوليو 12, 2010 5:21 am من طرف Admin
» باتش أمم إفريقيا والدورى المصرى لفبفا 10
الأحد يوليو 11, 2010 1:59 pm من طرف الجوكر
» إرشادات مهمة في فن المذاكرة
الخميس يونيو 10, 2010 4:37 am من طرف Admin